فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ}.
بين جل وعلا في هذه لآية الكريمة: أن ما عنده من نعيم باق لا يفنى، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، وقوله: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54]، وقوله: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2-3]. إلى غير ذلك من الآيات.
قوهل تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
اقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سيجزي الذين صبروا أجرهم- اي جزاء عملهم- بأحسن ما كانوا يعلمون.
وبين في موضع آخر: نه جزاء بلا حساب. كما في قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
تنبيه:
استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة: أن فعل المباح حسن. لأن قوله في هذه الآية {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} صيغة تفضيل تدل على المشاركة، والواجب أحسن من المندوب، والمندوب أحسن من المباح. فيجازون بالأحسن الذي هو الواجب والمندوب، دون مشاركهما في الحسن وهو المباح، وعليه درج في مراقي السعود في قوله:
ما ربنا لم ينه عنه حسن ** وغيره القبيح والمستهجن

إلا أن الحسن ينقسم إلى حسن وأحسن، ومن ذلك قوله تعالى لموسى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]. الآية. فالجزاء المنصوص عليه في قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. حسن، والصبر المذكور في قوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126]. أحسن، وهكذا، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وعاصم وابن ذكوان بخلف عنه {ولنجزين} بنون العظمة، وقرأه الباقون بالياء، وهو الطريق الثاني لابن ذكوان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}.
لما أحال البيان إلى يوم القيامة زادهم إعلامًا بحكمة هذا التأخير فأعلمهم أنه قادر على أن يبيّن لهم الحقّ من هذه الدار فيجعلهم أمّة واحدة.
ولكنه أضلّ من شاء، أي خلق فيه داعية الضلال، وهدى من شاء، أي خلق فيه داعية الهُدى.
وأحال الأمر هنا على المشيئة إجمالًا، لتعذّر نشر مطاوي الحكمة من ذلك.
ومرجعها إلى مشيئة الله تعالى أن يخلق الناس على هذا الاختلاف الناشىء عن اختلاف أحوال التفكير ومراتب المدارك والعقول، وذلك يتولّد من تطوّرات عظيمة تعرض للإنسان في تناسله وحضارته وغير ذلك مما أجمله قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} [سورة الانشقاق: 25].
وهذه المشيئة لا يطّلع على كنهها إلا الله تعالى وتظهر آثارها في فرقة المهتدين وفرقة الضالين.
ولما كان قوله: {ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء} قد يغترّ به قصّار الأنظار فيحسبون أن الضالين والمهتدين سواء عند الله وأن الضالين معذورون في ضلالهم إذ كان من أثر مشيئة الله فعقّب ذلك بقوله: {ولتسألن عما كنتم تعملون} مؤكّدًا بتأكيدين كما تقدم نظيره آنفًا، أي عما تعملون من عللِ ضلالٍ أو عمل هدى.
والسؤال: كنية عن المحاسبة، لأنه سؤال حكيم تترتّب عليه الإنارة وليس سؤال استطلاع.
{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}.
لما حذّرهم من النّقض الذي يؤول إلى اتخاذ أيمانهم دخلًا فيهم، وأشار بالإجمال إلى ما في ذلك من الفساد فيهم، أعاد الكرّة إلى بيان عاقبة ذلك الصنيع إعادة تفيد التصريح بالنهي عن ذلك، وتأكيد التحذير، وتفصيل الفساد في الدنيا، وسوء العاقبة في الآخرة، فكان قوله تعالى: {ولا تتخذوا} تصريحًا بالنهي، وقوله تعالى: {تتخذوا أيمانكم دخلًا بينكم} تأكيدًا لقوله قبله: {تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم} [سورة النحل: 92]، وكان تفريع قوله تعالى: {فتزل قدم} إلى قوله: {عن سبيل الله} تفصيلًا لما أجمل في معنى الدَخَل.
وقوله تعالى: {ولكم عذاب عظيم} المعطوف على التفريع وعيد بعقاب الآخرة.
وبهذا التّصدير وهذا التّفريع الناشىء عن جملة {ولا تتخذوا أيمانكم دخلًا بينكم} فارقت هذه نظيرتَها السابقة بالتفصيل والزيادة فحقّ أن تعطف عليها لهذه المغايرة وإن كان شأن الجملة المؤكدة أن لا تعطف.
والزّلل: تزلّق الرّجل وتنقّلها من موضعها دون إرادة صاحبها بسبب ملاسة الأرض من طين رطب أو تخلخل حصى أو حجر من تحت القدم فيسقط الماشي على الأرض.
وتقدم عند قوله تعالى: {فأزّلهما الشيطان عنها} في سورة البقرة (36).
وزلل القدم تمثيل لاختلال الحال والتعرّض للضرّ، لأنه يترتّب عليه السقوط أو الكسر، كما أن ثبوت القدم تمكّن الرّجل من الأرض، وهو تمثيل لاستقامة الحال ودوام السير.
ولما كان المقصود تمثيل ما يجرّه نقض الأيْمان من الدخل شبّهت حالهم بحال الماشي في طريق بينما كانت قدمه ثابتة إذا هي قد زلّت به فصرع.
فالمشبه بها حال رجل واحد، ولذلك نكرت {قدم} وأفردت، إذ ليس المقصود قدمًا معيّنة ولا عددًا من الأقدام، فإنك تقول لجماعة يترددون في أمر: أراكم تقدّمون رجلًا وتؤخّرون أخرى.
تمثيلًا لحالهم بحال الشخص المتردّد في المشي إلى الشيء.
وزيادة {بعد ثبوتها} مع أن الزّلل لا يتصوّر إلا بعد الثبوت لتصوير اختلاف الحالين، وأنه انحطاط من حال سعادة إلى حال شقاء ومن حال سلامة إلى حال محنة.
والثبوت: مصدر ثبت كالثّبات، وهو الرسوخ وعدم التنقّل، وخصّ المتأخرون من الكتاب الثبوت الذي بالواو بالمعنى المجازي وهو التحقّق مثل ثبوت عدالة الشاهد لدى القاضي، وخصّوا الثبات الذي بالألف بالمعنى الحقيقي وهي تفرقة حسنة.
والذّوق: مستعار للإحساس القويّ كقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} وتقدم في سورة العقود (95).
والسّوء: ما يؤلم.
والمراد به: ذوق السوء في الدنيا من معاملتهم معاملة الناكثين عن الدين أو الخائنين عهودهم.
و{صددتم} هنا قاصر، أي بكونكم معرضين عن سبيل الله.
وتقدّم آنفًا.
ذلك أن الآيات جاءت في الحفاظ على العهد الذي يعاهدون الله عليه، أي على التمسّك بالإسلام.
فسبيل الله: هو دين الإسلام.
وقوله تعالى: {ولكم عذاب عظيم} هو عذاب الآخرة على الرجوع إلى الكفر أو على معصية غدْر العهد.
وقد عصم الله المسلمين من الارتداد مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
وما ارتدّ أحد إلا بعد الهجرة حين ظهر النفاق، فكانت فلتة عبد الله بن سعد بن أبي سرح واحدة في المهاجرين وقد تاب وقبل توبته النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)} الثمن القليل هو ما يعدهم به المشركون إن رجعوا عن الإسلام من مال وهناء عيش.
وهذا نهي عن نقض عهد الإسلام لأجل ما فاتهم بدخولهم في الإسلام من منافع عند قوم الشّرك، وبهذا الاعتبار عطفت هذه الجملة على جملة {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} [سورة النحل: 91]، وعلى جملة {وَلاَ تتخذوا أيمانكم دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [سورة النحل: 94]. لأن كل جملة منها تلتفت إلى غرض خاص مما قد يبعث على النّقض.
والثّمن: العوض الذي يأخذه المعاوض.
وتقدّم الكلام على نظير هذا عند قوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا وإيّاي فاتّقون} في سورة البقرة (41).
وذكرنا هناك أن {قليلًا} صفة كاشفة وليست مقيدة، أي أن كل عوض يؤخذ عن نقض عهد الله هو عوض قليل ولو كان أعظم المكتسبات.
وجملة {إنما عند الله هو خير لكم} تعليل للنّهي باعتبار وصف عوض الاشتراء المنهي عنه بالقلّة، فإن ما عند الله هو خير من كل ثمن وإن عظم قدره.
و{ما عند الله} هو ما ادّخره للمسلمين من خير في الدنيا وفي الآخرة، كما سننبّه عليه عند قوله تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} [سورة النحل: 97]. الآية؛ فخير الدنيا الموعود به أفضل مما يبذله لهم المشركون، وخير الآخرة أعظم من الكلّ، فالعندية هنا بمعنى الادِّخار لهم، كما تقول: لك عندي كذا، وليست عندية ملك الله تعالى كما في قوله: {وعنده مفاتح الغيب} [سورة الأنعام: 59]، وقوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} [سورة الحجر: 21]، وقوله: {وما عند الله باق}.
و{إنما} هذه مركّبة من {إن} و{مَا} الموصولة، فحقّها أن تكتب مفصولة {ما} عن {إن} لأنها ليست {ما} الكافّة، ولكنها كتبت في المصحف موصولة اعتبارًا لحالة النّطق ولم يكن وصل أمثالها مطّردًا في جميع المواضع من المصحف.
ومعنى {إن كنتم تعلمون} إن كنتم تعلمون حقيقة عواقب الأشياء ولا يغرّكم العاجل.
وفيه حثّ لهم على التأمّل والعلم.
وجملة {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} تذييل وتعليل لمضمون جملة {إنما عند الله هو خير لكم} بأن ما عند الله لهم خير متجدّد لا نفاد له، وأن ما يعطيهم المشركون محدود نافد لأن خزائن الناس صائرة إلى النفاد بالإعطاء وخزائن الله باقية.
والنفاد: الانقراض.
والبقاء: عدم الفناء.
أي ما عند الله لا يفنى فالأجدر الاعتماد على عطاء الله الموعود على الإسلام دون الاعتماد على عطاء الناس الذين ينفَد رزقهم ولو كَثُر.
وهذا الكلام جرى مجرى التذييل لما قبله، وأرسل إرسال المثل فيحمل على أعمّ، ولذلك كان ضمير {عندكم} عائدًا إلى جميع الناس بقرينة التذييل والمثل، وبقرينة المقابلة بما عند لله، أي ما عندكم أيها الناس ما عند الموعود وما عند الواعد، لأن المنهيّين عن نقض العهد ليس بيدهم شيء.
ولما كان في نهيهم عن أخذ ما يعدهم به المشركون حَمْلٌ لهم على حرماننِ أنفسهم من ذلك النّفع العاجل وُعِدو الجزاء على صبرهم بقوله تعالى: {وليجزينّ الذين صبروا أجرهم}.
قرأه الجمهور: {وليجزين} بياء الغيبة.
والضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله تعالى: {بعهد الله} وما بعده، فهو النّاهي والواعد فلا جرم كان هو المجازي على امتثال أمره ونهيه.
وقرأه ابن كثير وعاصم وابن ذكوان عن ابن عمر في إحدى روايتين عنه وأبو جعفرَ بنون العظمة فهو التفات.
و{أجرهم} منصوب على المفعولية الثانية ل{يَجزين} بتضمينه معنى الإعطاء المتعدّي إلى مفعولين.
والباء للسببية.
و{أحسن} صيغة تفضيل مستعملة للمبالغة في الحسن.
كما في قوله تعالى: {قال ربّ السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه} [سورة يوسف: 33]، أي بسبب عملهم البالغ في الحسن وهو عمل الدوام على الإسلام مع تجرّع ألم الفتنة من المشركين.
وقد أكد الوعد بلام القسم ونون التوكيد. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}.
لو حرف امتناع لامتناع. أي: امتناع وجود الجواب لامتناع وجود الشرط، كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
فقد امتنع الفساد لامتناع تعدّد الآلهة.
فلو شاء الله لجعلَ العالم كله أمةً واحدة على الحق، لا على الضلال، أمة واحدة في الإيمان والهداية، كما جعل الأجناس الأخرى أمةً واحدة في الانصياع لمرادات الله منها.
ذلك لأن كل أجناس الوجود المخلوقة للإنسان قبل أن يفِدَ إلى الحياة مخلوقة بالحق خَلْقًا تسخيريًا، فلا يوجد جنس من الأجناس تأَبَّى عما قصد منه، لا الجماد ولا النبات ولا الحيوان.
كل هذه الأكوان تسير سَيْرًا سليمًا كما أراد الله منها، والعجيب أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد المختلّ في الكون، ذلك لما له من حرية الاختيار، يفعل أو لا يفعل.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} [الحج: 18].
هكذا تسجد كل هذه المخلوقات لله دون استثناء، إلا في الإنسان فقال تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} [الحج: 18].
فلماذا حدث هذا الاختلاف عند الناس؟ لأنهم أصحاب الاختيار، فيستطيع الواحد منهم أن يفعلَ أو لا يفعل، هل هذه المسألة خرجت عن إرادة الله، أم أرادها الله سبحانه وتعالى؟